“الادمان الشبكي وفيروس الكورونا الرقمي” مقال للبروفيسورة وديعة الأميوني


بروفيسورة وديعة الأميوني – باحثة اجتماعية

الإدمان هو استخدام اعتيادي مرضي يؤدي الى اضطراب في السلوك النفسي والاجتماعي بعد أن يسيطر على الفرد وقدراته. وينقسم إلى نوعين:
1- إدمان بيولوجي، مثل الاستخدام المتكرّر للمخدرات على أنواعها والكحول والدخان والنرجيلة والأدوية المنشّطة أو المهدئة للأعصاب.
2- إدمان سلوكي مثل القمار والسرقة والتبضّع والانترنت وغيره.

تتوسّع ظاهرة الإدمان الشبكي بشكل كبير يشابه سرعة انتشار فيروس الكورونا في العالم، خاصة بعد توفّر الإنترنت على الهواتف النقّالة التي تستخدمها شريحة واسعة من الفئات العمرية الصغيرة والشّابة والمتوسطة والمتقدّمة في السنّ أحياناً. وأبرز مؤشر على هذا الإدمان هو تزايد مستخدمي الإنترنت الى ۱۰۰ مليون فرد سنوياً في المجتمعات المعاصرة، ليصل  الى حوالي 5,11 مليار مستخدم، أي ما يزيد عن نسبة 70% من عدد سكان الأرض الإجمالي.

ان إدمان الإنترنت وباء عصري يشبه الى حدّ كبير مرض الكورونا المستجدّ لجهة عزل الأفراد اجتماعياً. بل ادخلتهم الشبكة العنكبوتية في إطار سجن افتراضي ضيّق على رغم وسع فضائها، حيث يجلس المدمن في غرفته مسجوناً بين جدرانها ومفتوحاً على كون أثيري لا يشبهه أو يتماثل مع حياته الواقعية، ويمارس علاقات افتراضية بعيدة عن ثقافة مجتمعه أغلب الأحيان.

وعليه، تلتفت جمعية جاد أو “شبيبة ضد المخدرات” الى هذه الآفة التي أصبحت تهدّد بنية المجتمع اللبناني، خاصة الفئات الشابّة التي تُعتبر ركيزة المجتمعات وتطوّرها، بل انّ الإدمان الإنترنتي أضحى أشبه بمادة الهيرويين والأفيون والمواد المخدرة لعقل الإنسان، حيث تُظهر الدراسات أنَّ مدمن الإنترنت يفرز دماغه مادة الدوبامين المسؤولة عن الشعور الايجابي، مثلما يفرز دماغ مدمن المخدرات للوصول الى الإحساس السعادة الزائفة، والذي يوصله في نهاية المطاف الى استخدام باثولوجي مرضي واضطرابات سلوكية.

ان الالتفات نحو إشكالية الهيرويين الالكتروني ضرورة ملحّة لأجل حماية الأولاد من هذا الوباء الافتراضي على وجه الخصوص، وهم الفئات الناشئة التي تبلور شخصيتها وتحدد دورها الاجتماعي وتتلقى معارفها وثقافتها وقيمها في سبيل بناء مستقبل الأوطان. ولا ننسى أن هذه الفئات الشابة تنتمي الى الثقافة المعارضة التي ترفض كلّ ما هو متعارف عليه، وتكون بذلك عرضةً للتأثر الكبير بما هو وافد من مجتمعات مغايرة، ضاربة بعرض الحائط ما هو شائع في ثقافتنا وخصوصيتها وما تحمله في طيّاتها من قيم وأعراف وعادات وتقاليد ومعارف. والجدير ذكره، أنَّ مستخدمي الإنترنت من الشباب في تزايد مستمرّ حيث تصل نسبتهم إلى ۷۵% وفق دراساتنا السوسيولوجية، وتصل ساعات الاستخدام لديهم الى حوالي 5 ساعات يومياً، وقد تصل الى ۸ ساعات إذا ما أضفنا الجلوس أمام الشاشات المتلفزة.

تتشعّب الأسباب الأساسية والعميقة التي أدّت إلى ظاهرة انتشار فيروس كورونا الإنترنت بين أبناء جيل الألف الثالث منذ حين، فإضافة الى المغريات التي تقدّمها الشبكة العنكبوتية، ساهم النظام الرأسمالي والنيو-ليبرالي في تثبيت المواد الاستهلاكية المادية على أنّها حاجات ضرورية ملّحة بعد أن كانت مظاهر كماليّة، فأرخى على الاهالي ضمن الأسر عبء الأعمال والخروج من المنزل لساعات طويلة على حساب جلوس وتفاعل الوحدات العائلية مع بعضها. انَّ هذا الغياب القسري أدّى الى شرخ بين أفراد الأسرة الواحدة وساهم في سيادة الشعور بالفراغ والوحدة لدى الأبناء خاصة، واللجوء بالتالي الى الشبكة العنكبوتية لأجل ملء اوقات غياب الاهل واستخدام الألعاب الالكترونية والدردشة والتواصل عبر الصفحات الالكترونية، ليصبح افراد العائلة روبوتات متحرّكة في عصر الاستهلاك والشاشات.

علامات ادمان الإنترنت
تصنّف الدراسات السوسيولوجية الأفراد الذين يستخدمون شبكة الانترنت لمدة ۳۸ ساعة اسبوعياً وما فوق، في خانة المدمنين الذين تتحوّل سلوكياتهم الى أسلوب عيش مرضيّ يحتاج الى علاج واهتمام. وقد لاحظت جمعيّة جاد، من خلال الحالات التي لجأت اليها، علامات المدمن الرقمي وفق مؤشرات عدّة، مثل الرغبة الملحّة والمتكررة في استخدام النت (دردشة – صفحات تواصل اجتماعي – أغانٍ – أفلام – ألعاب الكترونية – منتديات – مواقع الكترونية وترفيه الخ)، وغياب ممارسة الهوايات اليومية، والشعور بالتوتّر والقلق والاكتئاب في حال انقطاع الشبكة عن الآلة التي يستخدمها المدمن، واخيراً تراجع وانخفاض الآداء المهني او الجامعي او المدرسي وتدنّي مظاهر الاندماج الأسري والاجتماعي بعد سيطرة الشبكة العنكبوتية ومغرياتها.

تبرز علامات ومؤشرات أخرى تكشف عن اشكاليّة ادمان الهيرويين الإنترنتي لدى الأفراد مثل الشعور بالاكتفاء والسعادة عند الدخول الى تطبيقات الدردشة ومواقع التواصل الافتراضي، أو لدى رجوع الشبكة بعد الانقطاع لسبب تقني أو فنّي أو نفاذ الوحدات الرقمية. كذلك، يحدث أن تصبح الشبكة موقع اهتمام المدمن في الأحاديث والجلسات الخاصة في ما يطال نشاطه على صفحات التواصل الاجتماعي، وقد يستيقظ من النوم لأجل تفقّد حساباته وتطبيقاته الأثيرية والتفاعلات من قِبَل الأصدقاء الافتراضيين، بل يذهب إلى أبعد من ذلك أحياناً، ليصبح الدخول الى تلك المواقع ملجأً للهروب الافتراضي من المشاكل اليومية وإهمال الواجبات الحياتية على حساب معالجتها. وقد يحصل أن يحدد الفرد أو الأهل ساعات معينة لأجل الاستخدام، فلا يلتزم بها نظراً للشعور بالاكتفاء والتسلية  والسعادة التي يحصل عليها مهملاً مسألة التفاعل الواقعي مع الآخرين، علماً انّ الإنسان كائن اجتماعي يحتاج الى الجماعة ودائرة اجتماعية يتفاعل معها لأجل الانتاج الفكري والمهني والثقافي والمعرفي وتحديد أدواره وشخصيته الاجتماعية بهدف الاندماج والتطوّر.

الشبكة بين السلبيات والاستخدام السليم
قد يكون الجانب السلبي لمفاعيل ومضار الشبكة العنكبوتية أكثر ظهوراً وشيوعاً على المستخدمين، لكن تبقى جوانب إيجابية مختلفة على مستوى الأفراد مثل زيادة براعة استخدام الآلات الالكترونية وإمكانية الوصول الى المعلومات المعرفية والبحثية، وتسهيل الدراسة والتعلّم عن بعد (هذا ما حصل بفعل الحجر المنزلي بعد انتشار وباء الكورونا)، وتوفير السرعة في المعاملات المالية/التجارية أو التواصل بين الافراد وتجاوز عائق المسافات الجغرافية واستعادة انتاج علاقات مرّ عليها الزمن. أمّا على مستوى الأطفال والأولاد، تعمل شبكة الإنترنت على تنمية مخيلتهم وقدراتهم الإبداعية وتحفّز وعيهم وادراكهم من خلال التواصل البصري والصوتي للمواقع المعرفية والبحثية. هذا وتساعد الشبكة على الاطلاع على أحدث الاكتشافات العلمية في كافة المجالات الطبية والنفسية والاجتماعية والصحية والفلكية والحسابية والسياسية وغيرها. لكن تكمن المشكلة الأساس في عدم الإضاءة على تلك الجوانب الايجابية من قِبَل المعنيين مثل المحاضرين في الجامعات أو المعلمين في المدارس أو المرشدين الاجتماعيين والنفسيين أو الأهل أو المؤسسات الاعلامية.

أما الأدوار السلبية التي تلعبها الشبكة، فأكثر ما تتحدّد في إشكاليّة العزل الاجتماعي الطوعي والانطوائية التي تؤدي الى احداث شرخ بين أفراد الأسرة الواحدة أو ابناء المجتمع الواحد. كما تلعب دورها السلبي الكبير على مستوى الفئات العمرية الشابة أو الصغيرة التي تسيء الاستخدام، حيث تتوفّر المواقع الإباحيّة والعنفيّة ومواقع التعصّب والكراهيّة دون موانع أو رقابة، الأمر الذي يؤثّر على تربيتهم واحترامهم للقيم الأخلاقية، ويتعرّضون للابتزاز أو الاستغلال الجنسي، ويشاهدون الإجرام والإرهاب والقتل ويستخدمون الألعاب الالكترونية العنفيّة وألعاب الميسر ويتعرّفون على منتوجات الكحول ومستخدميها. ويحصل أن تسوًّق المخدرات عبر صفحات التواصل الافتراضي والتطبيقات مثل الفايسبوك والواتساب، ويتمّ الاتجار بها حيث يسهل التواصل بين التجّار والمروّجين والمتعاطين.

وللشبكة العنكبوتية آثاراً سلبية أيضاً على مستوى الصحة البيولوجيّة للمستخدمين، حيث ترسل الشاشات الاشعاعات المضرّة (الفوتون) وتتلقاها العيون فتؤذيها وتحدث صداعاً في الرأس وتؤدي الى الاجهاد. كذلك تسهم الجلسات الطويلة للمدمن على الآلات الالكترونية المتصلة بالشبكة آلاماً في الرقبة والعمود الفقري وخللاً في النمو لدى صغار السن.

توصيات وحلول لأهالي الأسر
تختلف الأساليب والأدوات العلاجيّة بين مدمن شبكي وآخر وفق درجة الارتباط بذاك السلوك الاعتيادي المرضي، فالبعض يحتاج الى توعية ومتابعة ومراقبة أسرية والبعض الآخر يحتاج إلى طبيب وعلاج نفسي لأجل التخلّص من ذاك الوباء الالكتروني الذي يوازي مرض الادمان على المخدرات والميسر والكحول وغيره الكثير كما أشرنا سابقاً.

يجدر بالأهل الأخذ بعين الاعتبار خطورة مفاعيل هذا الفيروس الافتراضي الكوروني المنتشر والمعدي بشكل سريع، حيث تبرز الدراسات والتجارب أنّ للإدمان الشبكي تأثير خطير على سلوكيات أبنائهم الاجتماعية وصحّتهم النفسية. وعليه يجدر وضع أولويات وخطط تصحيحيّة تحدّ من تفشّي هذا الوباء، فعلى الأهل مثلاً ابراز انفسهم كقدوة صالحة لأولادهم، فلا يستخدمون الشبكة لساعات طويلة وهم يصدرون الأوامر والاحكام على أبنائهم بالتخلي عن الشاشات الشبكية، بل يجدون البديل بهدف حثّهم على ممارسة الهوايات ومطالعة الكتب أو ممارسة الرياضة على أنواعها وإقامة الزيارات للأصحاب والنشاطات الكشافية او الخدماتية والتطوعية وابتكار الألعاب الميدانية أو اللجوء الى الألعاب التثقيفية، حتى وإن وُجدت أحياناً على الشبكة العنكبوتية، فيكون استخدامها ايجابياً ونفعياً. والأهم من ذلك مجالستهم ومناقشتهم بمختلف الأمور الحياتية واهتماماتهم وطموحاتهم ومشاكلهم. كذلك يجدر بالأهل مراقبة الفترة الزمنية التي يقضيها أولادهم على النت والمحتوى الذي يستخدمونه، لكن تبقى علامة الاستفهام حول إمكانية هذه المتابعة اليومية، خاصة في ما يتعلق بالمحتوى الذي يحذفه الأبناء من خلال ميزة HISTORY المتوفرة على الصفحات الالكترونية، وعليه يكون من الأجدى الاستعانة باختصاصيين لأجل استخدام الموجّهاتRouters  او اعدادات وبرامج تحدد الفترة الزمنية للاتصال بالشبكة ومحتوى الاستخدام، مثل برامج Qustodio أو  Symantec Norton Family  أو  Open DNS Home أو UKnowkids Premier أو premier Safe DNS أو Content watch Net أو استخدام ميزة Safe Search أو Parental Control & Screen time manager حيث ينقطع الاتصال بالشبكة بعد نفاذ الوقت المحدد، ويتعذّر الدخول الى المواقع الإباحيّة والعنفيّة ومواقع التطرّف والكراهية والتعصّب التي تؤثر على الأولاد وتربيتهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم الاجتماعية.

coronaviru1200px-1024x536 "الادمان الشبكي وفيروس الكورونا الرقمي" مقال للبروفيسورة وديعة الأميوني