يعقوب الشدراوي

مواليد زغرتا سنة 1934

والده طنوس الشدراوي (ملاّك أراضي) ووالدته وردة الدويهي.

الوالد وقف في البداية حائلاً دون تحقيق أحلام الصبي الشغوف بالمسرح، قبل أن يقضي بعد سنوات برصاص طائش في طرابلس خلال أحداث 1958، لتعيش الأسرة مأساة حقيقية.
تلقى علومه الإبتدائية متنقلاً بين مدرستي مار يوسف في زغرتا، ودير مار جرجس التابع للرهبانية المارونية في عشاش، ومن ثم مدرسة عينطورة للآباء اللعازاريين في كسروان.

أما علومه الثانوية فتلقاها في مدرسة الآباء الكرمليين في طرابلس.
على مقاعد الدراسة ظهر باكرًا ولع يعقوب الشدراوي بالمسرح وانبهاره بالخشبة والماكياج والأزياء. وفي واحدة من صالات تلك المدارس تأكد من أصالة شغفه بالمسرح، الذي شكّل محور حياته في ما بعد. ذات يوم، وزّع الأستاذ على التلامذة أدوارًا من مسرحية تتناول حياة يوسف بك كرم، لكنه نسيَ يعقوب، وفاته اختيار ممثلين لبعض الشخصيات الأخرى في المسرحيّة. وبعد انتهاء الحصّة، خرج الجميع من الصالة باستثناء الشدراوي، الذي أكبّ على الدفتر الذي تركه الأستاذ، وحفظَ كل الحوارات التي لم تحظَ بممثلين لها… وفي اليوم التالي، أدّاها أمام الأستاذ الذي ذهل من عبقرية هذا الصبي وموهبته.

 

محطة مفصلية
بعد التخرّج من المرحلة الثانوية العام 1952، رفض الوالد أن يتابع إبنه دروس المسرح، فاختار الشدراوي السفر. فقصد فنزويلا بدافع العمل وتجميع مالٍ يخوّله دراسة المسرح في لندن على نفقته الخاصة، لكنه فشل في ذلك، وعاد إلى لبنان ليعمل في إدارة «الجمعية اللبنانية للضرير والأصم» في منطقة بعبدا نهارًا، ويغرف ما أتيح له من ثقافة التراث المسرحي العربي والعالمي ليلاً. كما تفرّغ في العطل لإخراج عروض مسرحية في القرى حيث تولّى أبناؤها تمثيل الأدوار. من أعماله في تلك الفترة، مسرحيتان لسعيد تقي الدين «نخب العدو» و«لولا المحامي»، وأخرى للخوري ميخائيل معوّض «مارد صور».
أما المسرحية التي عرضها في عينطورة (المتن) لمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء، فشكّلت محطة مفصلية في حياته، إذ نالت إعجاب أحد الأساقفة الذي أمّن له منحة لدراسة المسرح في إيطاليا، ولكن لشهرين فقط… ثم تعاطف معه رجل دين آخر، إلتقاه صدفة في ساحة البرج، وتعهّد له بتدبير منحة لدراسة المسرح في روسيا.

 

في العاصمة الحمراء
سافر الشدراوي إلى الإتحاد السوفياتي العام1962. في موسكو، تفرّغ في البداية لدراسة اللغة الروسية، ولأنه لم يكن قد أتقنها بعد، اضطر ا لى الاعتذار من أستاذ حصة التمثيل في معهد «غيتيس» للفنون المسرحية في موسكو عندما طلب إليه ذات صباح، أن يؤدّي مشهدًا ارتجاليًّا. لكن الأستاذ أصرّ على ذلك وقال له: «إذا كنت لا تتقن الروسيّة، فحدّثنا بلغتك عن والدك». اقشعرّ بدن الشاب، فبينه وبين ذلك الرجل قصص مؤلمة، وكلام كثير غير مباح. إن قضية مقتل والده، كانت قد ألهمت الشدراوي مسرحية «الثأر في لبنان» التي قدّمها العام 1959 على مسرح «الشباب الكاثوليكي في طرابلس». وكان على الشاب الذي حاكى هاملت (مسرحية لشكسبير)، أن يعاود الكرّة في موسكو هذه المرّة، إنما من خلال أسلوب المناجاة والتداعيات. إنّها اللعنة التي سكنته مبكرًا كما يقول دائمًا، وهي التي جعلته في يوم بارد في موسكو، يأسر زملاءه بمشهد مسرحي مرتجل لم يفهموا منه حرفًا واحدًا، لكن معظمهم بكى تأثرًا.
في العاصمة الحمراء أدمن الشدراوي على عروض المسرح والباليه، وكانت الأجراس العملاقة في الكرملين وفي البطريركية الأرثوذكسية في زاغورسك (سيرغييف حالياً) وفي مسرح ستانيسلافسكي، أكثر ما أذهله. وتخرّج بعد ست سنوات من معهد «غيتيس» للفنون المسرحية في موسكو، وقد اختار لمشروع التخرّج مسرحية «حكاية فاسكو» للأديب اللبناني جورج شحادة.

 

رحلة الألف ميل
فور عودة الشدراوي الى لبنان العام 1968، اقتحم الساحة الثقافية، بتقديم عروض مسرحية وتحقيق مشاريع فنيّة متميّزة في المسرح والتلفزيون والاذاعة.
بدأ مسيرته الإبداعية في فترة الستينيات، حين دخلت الحركة المسرحية العربية عصر تألقها في مصر ولبنان والعراق وسوريا. وشهدت مسارح لبنان أعمال روجيه عساف، ونضال الأشقر في «محترف بيروت للمسرح»، إلى «حلقة المسرح اللبناني» مع أنطوان ولطيفة ملتقى، وصولاً إلى منير أبو دبس من خلال «مدرسة بيروت للمسرح الحديث»، وشوشو والأخوين الرحباني والسيدة فيروز والموسيقار الراحل وليد غلمية وغيرهم…
وعلى الرغم من تداعيات الحرب اللبنانية، استعاد المسرح اللبناني عافيته بعدها، وأصبح جزءًا من حياة الناس اليومية، وكان الشدراوي في طليعة المسرحيين اللبنانيين الذين أعادوا بناء صرح الثقافة الذي دمّر.
باكورة أعماله كانت «أعرب ما يلي» (1970)، قدّمها على خشبة مسرح مهرجانات بعلبك. أثارت هذه المسرحية ضجة كبيرة وشهدت إقبالاً غير مسبوق، وجمعت قصائد لأدونيس وأنسي الحاج ومحمود درويش مع مقتطفات من نصوص جورج شحادة وسعد اللـه ونّوس. وقد كتب عنها الصحافي فارس يواكيم يومذاك مقالة بعنوان: «اليوم وُلدَ المسرح اللبناني». شعر يعقوب الشدراوي بالإحراج، وقال لزميله نقولا دانيال «إنّه حكم الإعدام»، حين دخل عليه وهو يلوّح بالجريدة، لكنه لم يكن كذلك تمامًا.
بعد أربع سنوات كانت مسرحيته الثانية «المهرّج» عن نص الكاتب والشاعر الساخر محمد الماغوط، الذي وجد الشدراوي أنه يتناسب وتلك الفترة، وقد أصبحت حديث الصالونات الأدبية والثقافية والسياسية، وحظي على أثرها الماغوط بنصيب وافر من اهتمام الشدراوي في مطلع السبعينيات.
وأعقبت «المهرّج» عروض متألقة بمعدل عمل في كل موسم، فإلى«سمكة السلور» (1971) كانت «الأمير الأحمر» (1973) و«أبو علي الأسمراني» (1974) و«فرافير» يوسف إدريس التي حملت في صيغتها اللبنانيّة عنوان «الطرطور» (1983) وقد أعاد بناء حبكتها في بيروت تحت الحصار الإسرائيلي، و«موسم الهجرة الى الشمال» و«مذكرات مجنون» وغيرها… بالإضافة إلى مشاركته في إخراج العروض في مهرجانات بعلبك.
العام 1992، عاد إلى الخشبة بعد انقطاع دام تسع سنوات بمسرحيّة «يا اسكندريّة بحرك عجايب» عن نصّ أسامة العارف.

 

نقل الأدب إلى الخشبة
كان الشدراوي دائمًا في حالة بحث عن النص المحلّي الجيّد، ويعتبر أنه باستثناء نصوص الماغوط، لدينا في العالم العربي مشكلة نص.
ركّز على جبران خليل جبران في «جبران والقاعدة» وميخائيل نعيمة في «سبعون» ومارون عبّود في «الأمير الأحمر» والطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، وبذلك كان المخرج اللبناني الذي حمل الأدب إلى الخشبة، واجتهد على مسرحته في قوالب تجمع بين التجريبيّة والأكاديميّة الصارمة…
لا يمكن اعتبار مسرح الشدراوي واقعيًا ولا اجتماعيًا ولا عبثيًا ولا فكريًا ولا حتى رومانسيًا، بل هو كل ذلك وغير ذلك في آن.
لم يقتصر نشاطه على خشبة المسرح اللبناني فحسب، بل تجاوزه الى الأقطار العربية، مقدمًا رؤية جديدة للفن المسرحي، استوحاها من حصيلة دراسته في معهد الفن المسرحي في موسكو.
ويقول يعقوب الشدراوي لمجلة «الجيش»: «إن المسرح هو سيرك الحياة ندخله ثم نغادره. ولكن السيرك مستمر في الواقع وعلى الخشبة، إنما على تحوّلات تتلاءم مع العصر وتقلباته».
وعن واقع الثقافة العربية يقول: «إننا دخلنا زمن الهبوط والانحطاط على كل المستويات، ولا بدّ أن يكون المسرح أول الضحايا. ذلك لأنه وجدَ للناس ولا يمكن أن يكون غير ذلك. ومنذ أيام سوفوكل أي منذ حوالى 450 سنة قبل الميلاد، كان المسرح مهرجان العشرين ألف مشاهد وأكثر، أي أنه كان مسرحًا طقوسيًا. أما مسرح شكسبير فقد توجّه الى مشاعر الناس في العالم كله، ولم يكن من أجل النخبة على الإطلاق، ثم جاءت المدارس الحديثة لتكشف العجز…».
ويعتبر الشدراوي «أن المسرح في لبنان يمرّ بصعوبات شتّى وكبيرة، على الرغم من وجود مسرحيين ومخرجين وممثلين كبار، فنحن بحاجة إلى إقامة «مسرح وطني» يجمع الجميع ويفعّل الحركة المسرحية والثقافية».

 

الشدراوي الممثل
هو من ألمع ممثّلي المسرح، بالرغم من تكريسه جهده الأساسي للإخراج. وقد كانت له إطلالات مهمة على الشاشة الصغيرة في العصر الذهبي لـ «تلفزيون لبنان» من خلال مسلسلات كـ«البؤساء» و«تمارا» مطلع السبعينيات.
تخرّجت على يدي الأستاذ يعقوب باقة لافتة من الممثلين والمسرحيين اللبنانيين، في «معهد الفنون الجميلة» في بيروت، الذي درّس فيه سنوات قبل أن يتوقّف عن التعليم العام 1998.

 

المراجع:
صحف «الأخبار»، «النهار»، و«المستقبل»، مواقع إلكترونية، وموقع الجيش الالكتروني.