أتصورك قابعاً في سريرك تنظر إلى البعيد محاولاً طرد بعض الأشرطة القصصية من ذهنك لتحلّ محلّها أشرطة من الذاكرة: ذاكرة »الأمير الأحمر«. أليس هو ذاته الذي ألبسته شخصية المقاوم الذي يتحدى صروف الأيام منذ مطلع السبعينيات؟ ألم تنتشل الأمير الأحمر من سرد الرواية إلى نبض المسرح الدافق بالحياة؟ ألم ترسمه بلون شخصية القائد الذي يسخر من الدنيا كي يبقى على تلّة عالية ينظر إلى الدنيا من فوق ويسخر منها حتى اللحظة الأخيرة، حتى الرَّمَق الأخير؟
أميرُك الأحمر صرخة أطلقتَها منذ أكثر من ربع قرن ولا يزال صداها يرنّ في أذُن كل مَن يبحث عن معنى للحياة. ولم يخطر ببالك يوماً أن المواجهة ستتم بينك وبين أميرك. هو يصرخ، يقاتل، يناضل من أجل أن تبقى أنت وسط الساحة، وسط الناس، وسط البسطاء والأوفياء، وأنت تصر قائلاً: أنا تعِبْتُ يا أميري، تعِبْتُ من النضال ورفع الصوت عالياً، تعِبْتُ من الصرخة المدوية.
لكن سيفكَ وحصانكَ لم يتعبا، قال الأمير الأحمر.
السيّاف أرهقته الحياة يا أميري، وسائس الخيل أوقعته كبوة الحصان.
كنت تروي لي قصة الجنازة لتشيخوف وقصة الرِّجْل الخشبية، أتدري لماذا رويتهما؟
لمن يقرأ بين السطور.
بل لمن يستطيع السخرية من الحياة. أنتَ وتشيخوف قادران بسحر ساحر أن تسخرا من الدنيا، أن تعبثا بأشكالها وأقدارها ومنطقها (أو لا منطقها). فيكما قدرة الضَحِك عليها ومنها قبل الضَحِك معها. وهذا ما لا يستطيعه قائد عسكري، أو زعيم سياسي. وحده الفنّان، أو الشاعر، قادر على ذلك. وحده المسرحي مستعدّ لمغالبة الحياة والضَحِك معها وعليها قبل أن يمضي وبعد أن يمضي.
قلتُ لك إنني تعِبْت أيها الأمير.
تعَبُك خَيْط من شعاع دون كيشوت. كلما توغلْتَ فيه زاد تطوافك فينا وتفاقم المشهد: ينزل أميرك إلى ساح التاريخ، يهمس في عقول الناس كما في قلوبهم، وتنتشر كلمة السر: صحيح أن طقوس الجنازة كانت اليوم للقائد العسكري، أو الزعيم السياسي، لكن طقوس الحياة تُعقَدُ لكَ وحولك، وتطوّق عنقك اليوم وغداً وبعد غد.
أمين البرت الريحاني، السفير 21 ـ 5 ـ 2005