أمسية شعرية فريدة لأنطوان الدويهي في قصر الكبرى في إهدن

جو طقوسي ساحر في التقاء “كتاب الحالة” مع كبار الموسيقيين الكلاسيكيين

كانت أمسية شعرية استثنائية، غير معهودة، تلك التي قدّمها الشاعر والروائي أنطوان الدويهي، مساء الجمعة 17 آب (آب)، في قصر الكبرى الأثري في إهدن، بمناسبة صدور الطبعة الثانية من “كتاب الحالة” عن الدار العربية للعلوم- ناشرون، ودار المراد، في الذكرى الخامسة والعشرين لنشر هذا الكتاب، في العام 1993، عن دار النهار. وقد نظّمت بلدية زغرتا- إهدن هذا اللقاء بالاشتراك مع الدارين البيروتيتين، ناشرتي الطبعة الثانية.
واستثنائية هذه الأمسية ليست في كونها الأولى للدويهي في لبنان ، فحسب. بل أيضاً في مرافقة النصوص الشعرية العشرة (دعوا العابر، أن لا يوقِفَكَ، أنا الرائي، إشارة، كقمرٍ رائف، المرأة الرُمح، أيها المغنّي، في جُرحِكَ، قمر البلاد الواطئة، ها هو)، بمقطوعات موسيقية كلاسيكية منسجمة مع النصوص، منتقاة بعناية بالغة، من أعمال مندلسون، وألبينوني، وباخ، وساتي، ودوبيسي، وشوبين، وبيتهوفن، أدّتها على البيانو أستاذة العزف ماري دحدح. وأيضاً، في روعة أقبية قصر الكبرى التي استضافت ألفونس دو لامارتين والبرنس دو جوانفيل والعديد من الكتّاب والرحّالة الأوروبيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، حين كانت مقرّ حاكم إقطاعة إهدن. واكتمل اللقاء بجمهور من محبّي الآداب والفنون ملأوا المكان وتفاعلوا عميقاً مع الأمسية الشعرية – الموسيقية في صمت طقوسي ساحر.
ليليان يمّين : بين شعر الأعماق وموسيقى الأعماق
رحّبت الإعلامية المحامية ليليان يمين بالحضور “في هذه الأمسية الشعرية
التي تجمع “كتاب الحالة”، هذا الكتاب المُؤثر، وأعمال كبار الموسيقيي العالميين .
لقاء نادر بين شعر الأعماق وموسيقى الأعماق.
بعضُ الكتابة نثرٌ جميل، وبعضُها نافذة على غابة، وبعضُها وُلوجٌ إلى أعماِق الذات، ولكنّ “كتابَ الحالة” وحدُه يجمعُ من هذا وذاك فهو نثرُ غابةِ الذات.
يومَ أطلقَ أنطوان الدويهي كتاَب الحالة في طبعتِه الأولى عن “دارِ النّهار للنشر” منذُ خمسةٍ وعشرينَ عاماً كنتُ حاضرةً، ومن حينِها ما زالَ هذا الكتابُ حاضراً في دنياي، أستعيدُه وأحفظُه كحبّاتِ مسبحة، كتاب يحررك من ثنائية القارىء والكاتب فتروح بسرّك تخاطب الذات الكامنة فيك ، وعلى مرِّ السنوات، صارتْ علاقتي مع هذا الكتاب، تزدادُ إلى حدِّ الإنتماء . حقاً أنا أشعُر بالإنتماء إلى هذا الأدبِ الكبير الذي شقّ طريقَه من ذاتِ الكاتب وحدِها، ومن نظرتِه الفريدة. إنتماٌء إلى فعلِ الصفاء والحقيقة، يُوازي انتمائي إلى هذا الجبلِ الأجرد الشامخ عسانا نتركه في استراحته المقدسة شاهداً أزلياً على مرورِنا ، وانتمائي إلى كنائسِنا، كنوزِنا التي ورثناها، كما أرادَها طبعاً أجدادُنا. ولنتذكر دوماً أننا لسنا سِوى حرّاسِ الذاكرة والمؤتمنين على المشهد.
“كتابُ الحالة” أحدُ أهمِّ الكتبِ الشعرية باللغة العربية في القرن العشرين، ويَتّضحُ ذلك في نظرةِ النخبة من الأدباءِ والشعراءِ والنقّاد والمفكرين ، التي نجدُها في مقدّمةِ هذه الطبعة الثانية الصادرة عن دار العربية ودار المراد في بيروت ، إذْ فضلاً عن توقف هذه النظرة عند مضامين الكتاب ومدلولاتِه الشعريه فهي تُركّزُ على فرادتِه، فكتابةُ الدُويهيّ “لا تُذكّرُنا “بأشقاء وآباء سابقين”، “كتابٌ حميميٌّ كصلاةٍ بلا كلمات”، “كتابٌ “يُحلِّقُ أو يُبحرُ، وفي الحالتَين زرقة مقدّسة، لم يعدْ لها وجود إلا في قلوبِ الأطفال وبعضِ الشعراء “.
وقد عرّفت ليليان يمين بشوقي الريّس قائلة : ”
زهرةٌ واحدة تَكفي لتُومىءَ لكَ بمجيءِ الربيع، ولقاءٌ واحٌد مع الدكتور شوقي الرَيّس كان كافياً لأستعيدَ دهشةً كنتُ أفتقدُتها أمامَ الآخر، فشكراً للحياة على هذا اللقاء الإكتشاف.
الباحثُ في سيرةِ الرجل يعرفُ أن شوقي الريّس، الدكتور من جامعة مدريد، الأستاذ الزائر في جامعاتٍ كبرى في لبنان واوروبا، أحد أهم مترجمي الأمم المتحدة والمترجِِمُ الشخصي للملك الإسباني خوان كارلوس على مدى عشرين عاماً. وهو قبل كل ذلك ، كاتب وذواقة أدبي وفنّي من الطراز الرفيع ، موصولُ بالأثر الأدبي . عمّقت تجربته أسفاره في مختلف العالم ، هذا الرحالة الكبير ، عارف مناخات وأسرار المدن التاريخية والحضارات .أَختم بسؤال له يوشي بهاجسِه كمثقفٍ حقيقيّ عندما يقول : “لماذا تزدادُ ظلمةُ العالمِ الذي أنتمي إليه؟ ولماذا أكادُ أصيُر أنا نفسي جزءاً من هذه الظلمة التي لا ينتصرُ فيها سوى الدمار؟ وكيف بإمكانِك أن تواصلَ العيشَ بين فَكّي هذه ألأرضِ الملعونة ؟”.
ثم قدّمت يمّين أستاذة العزف، ماري دحدح، بما يأتي : ” هي العازفُة قبل المقطوعة ومعَها وبعدَها، هي العازفةُ على أوتارِ القلب قبل النوتا، والعازفةُ على أوتارِ الروح بعدَ النوتا.بحضورِها الإبتكاريّ ماري دحدح هي اليوم مديرةُ المعهد الموسيقي في الجامعة الأنطونيّة في الشمال، وهي أيضاً الأستاذة المتكئة على ثقافةٍ فنيّة موسيقيّة لا تبخلُ عليكَ مشاركتَها عوالمَها، فتخالُ وأنتَ تصغي إليها أنّ باخ حاضراً بروحه، وشوبان سائراً إلى جنازتِه، وألبينوني ممتزجاً بماءِ مدينتِه، وهي كذلك صاحبة الفضل الكبير في نشر ثقافة البيانو في هذه المنطقة” .

شوقي الريّس : “كتابة العتمة في حالات الإضاءة”
عندما وقعتُ على ” كتاب الحالة ” للمرّة الأولى ، كنت كمن وقع على اقحوانة نادرة في الجرود البعيدة .. يحوطُها الشوكُ والاعشاب البريّة .. يتصاعد عطرُها كبخّور الصلوات الصامتة ، وينزل كحبّات المطر على عطش التراب .وما إن بدأت أرشفُ من رحيق ذلك النصِّ .. حتى تملّكتني حيرةٌ آسرة ، لم تفارقني الى اليوم ، وأدركت في اعماقي أن ذلك ” العابر ” الذي يهزّ شجرة اللغة برقّة نسائم العشايا الربيعية ، ويرقى بها الى مرتبة الابتهال ، قد حلّ مقيماً وخليلاً على الدوام .
أقول نصّاً ، لأن ” كتاب الحالة ” ، عندي ، هو النصُّ في أرقِّ تجليّاته وأنقاها .. يختمرُ فيه الوعيُ بالقلق ، والعرفانُ بالفكر المُصَفّى ، ويختصر كل الأسئلة التي نطارحها أنفسنا على امتداد سهوب الحياة .
كتابةٌ .. كلُّها كتابةٌ . وكلماتٌ ترى اليها ، ولا ترى منها ، بل ما وراءها من سرابٍ يجذبك ، بما يشبه الإدمانَ، الى أبعد ضفاف اللغة .
خصوصيّة النصِّ “الدّويهي” في “كتاب الحالة” ، كما في كل كتاباته من “حديقة الفجر” و “عبور الركام” و”رتبة الغياب” و ” الخلوة الملكيّة” ، الى حامل الوردة الارجوانية” ، و “غريقة بحيرة موريه” و “آخر الأراضي” ، تضعه في حالٍ من التفرّد الارستقراطي في زمنٍ أصبحت فيه الكتابة بلغة الضاد شكلاً من أشكال الحِداد على هذه اللغة .. وعالم هذه اللغة .
” كتاب الحالة ” ، نصٌّ يصطاد به الدّويهي في ثنايا الذات القلِقة ، والرؤوفةِ .. المندهشةِ دوماً امام الجمال ، والمعذّبةِ حتى الموت لمحاصرته وتهشيمه . وهو نصٌّ يتجدّد انطواؤه بقدْرِ ما نتوغّل في اغواره .. وننعم ، ثمّ نتعذّب ، في ذلك المسرى الذي يعصر خمر الحياة في كأس اللغة . المسرى الذي يبدأ من حيث يجب ان يبدأ .. من الالتحام الكامل بجمال العالم ، وذروة يأسه وقلقه العميق . ومن الانخراط القاسي في تغيير الواقع ، لا الاكتفاء بتهجائه والتفرّج عليه . ومن صياغة لغةٍ فريدةٍ لا تخشى الابتعاد عن الشطآن ، لأن صائغها أدرك .. من زمان .. أن الخلاص لا يكون إلا فرديّاً .
أعرف ان الحديث عن ” كتاب الحالة ” ضربٌ من المجازفة ، وفخٌ إن وقعت فيه ، لن تخرج منه سالماً . قيل فيه كلامٌ كثير ، بليغٌ وجميل ، وسيقال فيه أكثر . لكنه سيبقى عصيّاً على الادراك التام ، ينثال منه القلقُ مسكوباً في وهمِ النصّ ، واضحَ المبنى لكن زئبقي المعنى ، فيه من التيه بقدر ما فيه من الطريق ، ثمارُه ناضجةٌ لكنها لن تسقط بين يديك ابداً ، لأنك تعرف ، لكنك لا تدرك ، ان الكمال ، كما الجمال ، بالنقصان وليس بالزيادة .
“كتاب الزُرقة المقدّسة التي لم يعد لها وجودٌ إلا في قلوب الأطفال وبعض الشعراء” كما وصفه أنسي الحاج عندما قال : ” من أجمل ما فيه ، هذا الكتاب الشعري المتلألئ ، الى عديد صفاته ، نأيُه عن الصفوف طاهراً من أي تيّارٍ أدبي . والى نقاء هواء أعاليه وصفاء ماء اغواره ، عفّةٌ لغويّة حلَّ فيها الجوهريّ محلّ الزخرف، والدقة الروحية محل الحذلقة ، وبلاغة الوعي الحاد محلّ الفصاحة ” .
قلتُ إن كثيرين تألّقوا في الحديث عن “كتاب الحالة” ، لكن لعلّ المفكّر والناقد محمود حيدر كان ، في اعتقادي ، أثقَبَ الذين وغلوا عالم كتابات الدويهي عندما قال : ” كتابة مغلقة ، لا تحكي إلا أشياء الذات ، عابرةٌ كومْض . انها كتابة العتمة في حالات الإضاءة . وهي بهذا التوصيف كتابة مرآوية ، تشعّ من مرآة الداخل في لحظة صفاء ، فاذا الكلام الصادر منها دوائرُ بلّورية لا تشوب لمعانَها شائبةٌ ” . ثم يخاطب الكاتب بقوله : ” صِرتَ خارج العدد . ونائياً بقدْر تجلّيك في نفسك ، عن زمن الناس . فانت في الحالة لا احد سواك ، لا مكان إلّا الذي انت فيه ، إلّا الذي فيك ، إلّا الذي انت هو ” .
منذ عامين تقريباً ، جلسنا مجموعةٌ من الأساتذة والطلاب في الجامعة اليسوعية حول أنطوان نصغي اليه يحدثّنا .. لماذا يكتب ؟ وكيف يكتب ؟ وماذا يكتب ؟ . جلسةٌ كانت نوراً في ظلام المدينة التائهة بين الخمول والضلال .
” .. لغتي اكتملت في شكلها النهائي قبل بلوغي العشرين ولم تتغيّر منذ ذلك الحين”، قال لنا يومها مدّونُ “اللحظات المتوهّجة ” ، العابرُ حافياً على صفحة الحياة الداخلية .الدليل على ذلك هو النصّ الواشي دائما بهويّة صاحبه منذ خمسة وعشرين عاماً ، من ” كتاب الحالة ” حتى ” آخر الأراضي ” .

ألم تكتمل لغة “رامبو” قبل بلوغه العشرين ؟ ولغةُ لوركا قبل العقد الثالث من عمره ؟ ونيرودا ، ألم يضع أجمل ديوان له وهو ما زال بعدُ في التاسعة عشرة ؟

ثم قال لنا هذا المسكون بهاجس “الكتابة المطلقة” ، ” إن البحث عن هذه الكتابة وهمٌ .. فهذه هي الكتابـة ، وليس هناك من كتابـة سواها” . السعيُ الى .. وليس الوصولُ الى . المعرفةُ في السؤال قبل ان تكون في الجواب . هذا كان دائما هاجسَ الذين أناروا لنا عتمة الدروب ، وأهدونا السكينة في الاضطراب .هاجس الذين يعيشون الحياة من الداخل ، من العالم الداخلي الذي يعتبره الدويهي ” العالم الحقيقي الوحيد ” ، ويقول : “الحياة الداخلية هي الكون برمّته . وعندما تنطفئ الحياة الداخلية ، ينطفئ الكون )) .
” الكتابة دعوتي ” ، قالها ببطء وابتسامة مشوبةٍ بمسحة من الحزن الجميل . وأضاف : ” آسَفُ لأمرٍ واحد: كان يجب ان أكرّس حياتي كلّها للكتابة ، من دون أي فعلٍ آخر .. وهي ردّي على الموت في هذه المعركة الخاسرة سلفاً ضد رامي السهام الأعمى” .
عندما تهدينا كتاباً مثل “كتاب الحالة” ، يصبح الموتُ وراءك ، وليس أمامك يا أنطوان .

كلمات الصور:
– أنطوان الدويهي، وماري دحدح على البيانو
– جانب من الجمهور
– جانب من قصر الكبرى الأثري

error: Content is protected !!